المحور الثاني: العقلانية العلمية
1) إشكال المحور:
إن تقدم العلوم أفضى إلى ظهور مجموعة من المشكلات الإبستيمولوجية المرتبطة
بصعوبة تطبيق المنهج التجريبي الكلاسيكي على الأجسام الميكروسكوبية، كالإلكترون
مثلا الذي عجزت الملاحظة عن رصده، بالتالي دعت الضرورة إلى ظهور عقلانية علمية
تعيد النظر في الدور الذي احتلته التجربة في العلوم على مدى قرون.
فما المقصود بالعقلانية؟ وهل يمكن
الاعتماد على التجربة في صياغة القوانين العلمية؟ أم أن القوانين تصاغ صياغة
عقلية؟
2) المعرفة العلمية بين العقلانية
والتجريبية:
يرى ريشنباخ
أن اعتماد المعرفة العلمية على مناهج معقولة، لا ينبغي اعتباره سببا لرد العلم إلى
العقلانية، بحيث أن مجال العقلانية هو الفلسفة وليس العلم، بالتالي فإدخال
العقلانية إلى العلم سيعني إدخال الميتافيزيقا والخيال إلى علم الفيزياء، لذلك وجب
الاعتماد لا على العقلانية بل على الملاحظة التجريبية لضمان التوصل إلى نتائج
علمية دقيقة.
وفي سياق نقده للعقلانية رأى بأنها
نوعا من المثالية المفارقة للواقع، وهي بذلك أقرب للتصوف الذي يحتقر المادة
باعتبارها لا تحمل الحقيقة. مما يستوجب إبعاد هذا النمط من التفكير عن المعرفة
العلمية التجريبية.
قيمة الأطروحة وحدودها:
لا شك أن فلسفة العلم قد أسست نمطا
جديدا من التفكير، قائما على التحقق التجريبي، وانتصر روادها للعلم الذي قدم نتائج
قطعية، عكس تلك التي قدمتها الفلسفة.
لكن
اكتشاف أبعاد جديدة في الطبيعة أظهرت عجز التحقق التجريبي وفتحت الباب أمام عودة
الفكر النظري العقلاني بقوة في مجال العلوم الطبيعية. فكيف ذلك؟
إن أساس
المعرفة العلمية حسب أينشتاين هو العقل، فالطبيعة لا تفهم إلا بمبادئ عقلية
رياضية، بالتالي فالتوصل إلى العلاقات الرياضية بين المفاهيم والقوانين
الطبيعية هي السبيل الوحيد لفك ألغاز الطبيعة، أما التجربة فينحصر دورها في تأكيد
هذا البناء العقلي، ولا يمكن اعتبارها منبعا للمعرفة العلمية.
فالمعرفة العلمية هي استنباط عقلي
للنتائج انطلاقا من مقدمات واقعية، تتم خلاله مراعاة الاتساق المنطقي أثناء
الاستدلال، بصرف النظر عن الواقع.
من خلال ذلك، فالمعرفة العلمية مبنية على أساس أكسيومي منفصل عن
التجربة، وهذا ما عبر عنه أينشتاين بقوله:"إن المبدأ الخلاق الحقيقي يوجد
في الرياضيات".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــ أكسيوماتيك Axiomatique: يترجم هذا المصطلح في اللغة العربية إلى مبحث الأوليات، وهو منهج معاصر في الرياضيات، ينطلق فيها الرياضي من فرضية يختارها من بين مجموعة من الفرضيات الممكنة، ويصل عبر الاستدلال الرياضي إلى نتائج، يشترط فيها ألا تناقض الأوليات أو الفرضيات التي انطلق منها، دون مراعاة مضمون الرموز أو دلالتها الواقعية. فهو منهج فرضي استنباطي.
موقف غاستون باشلار G.Bachelard (1884ـ 1962)
يرى باشلار أن
العلوم الفيزيائية لابد أن تزاوج بين العقل والتجربة في نفس الوقت، فالعالم
المعاصر ينبغي أن يؤمن من جهة بأن الواقع خاضع لقوانين عقلية، ومن جهة ثانية بأن
الحجج العقلية المستقاة من التجربة هي من صميم هذه التجربة.
من
خلال ذلك فالعلم يتطلب دخول العقل والواقع المحسوس في حوار يتجاوز تلك النظرة
الضيقة التي تجعل العقل معزولا ومتعال عن التجربة، وتجعل العالم مستقلا عن الذات،
وهذا الحوار يعبر عن تكامل العقل والتجربة في عملية إنتاج المعرفة العلمية، بحيث
يعمل العقل داخل نطاق تجربة تُرسَم حدودها بشكل دقيق، فنصبح أمام عقلانية مطبقة مع
مادية مبنية.
يعبر باشلار عن هذا الموقف بقوله: "لاتوجد عقلانية فارغة، كما لا توجد اختبارية عمياء".
3) خلاصة تركبة
أعاد الفلاسفة والعلماء النظر في الإشكالية الكلاسيكية حول حدود كل من التجربة
والعقل في إنتاج المعرفة، وذلك وفق ما فرضه العلم الحديث، فوجدنا تعارضا في
التصورات، بين من يرى بأن إنتاج المعرفة العلمية يتم بمنهج أكسيومي رياضي، وبين من رأى في ذلك انتقالا من المجال
العلمي إلى العقلانية الفلسفية، لأن العلم لا يمكن أن يبنى إلا على أسس تجريبية.
أما غاستون باشلار فقد رأى بأن المعرفة العلمية لا يمكن أن تتقدم إلا في إطار حوار
بين العقل والتجربة.